منتديات مدرستي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتـــديات مدرستي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 عائد الى حيفا 8 (تكملة)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
قمر الزمان
مشرف على المنتدى
مشرف على المنتدى
قمر الزمان


عدد الرسائل : 289
العمر : 30
تاريخ التسجيل : 30/08/2008

عائد الى حيفا 8 (تكملة) Empty
مُساهمةموضوع: عائد الى حيفا 8 (تكملة)   عائد الى حيفا 8 (تكملة) I_icon_minitimeالجمعة نوفمبر 07, 2008 1:17 pm

فما الذي يتغير ؟ ومع ذلك فأنا لا أشعر بالاحتقار إزاءك ، والذنب ليس ذنبك وحدك ، ربما سيبدأ الذنب من هذه اللحظه ليصبح مصيرك ، ولكن قبل ذلك ماذا؟ أليس الانسان هو ما يحقن فيه ساعة وراء ساعة ويوما وراء يوم وسنة وراء سنة ؟ إذا كنت أنا نادما على شيء فهو انني اعتقدت عكس ذلك طوال عشرين سنة "!

وعاد يجر خطواته ، محاولا أن يبدو أهدأ ما يكون ، عائدا الى مقعده ، إلا أنه في تلك الخطوات القليلة التي كانت تمر عبر الطاولة المصدفة ، بريش الطاووس الذي يتمايل في المزهرية الخشبية وسطها ، بدت له الأشياء مختلفة تماما عما كانت عليه حين دخل هذه الغرفة للمرة الأولى قبل ساعات ، وسأل نفسه فجأة : ما هو الوطن؟ وابتسم بمرارة ، وأسقط نفسه ، كما يسقط الشيء في مقعده ، وكانت صفية تنظر اليه قلقة ، وتفتح في وجهه عينين متسائلتين ، وعندها فقط خطر له أن يشاركها في الأمر، فسألها :
-"ما هو الوطن ؟".

وارتدت الى الوراء مندهشة وهي تنظر اليه كمن لا يصدق ما سمع ، ثم سألته برقة يكتنفها الشك :
-" ماذا قلت؟".

-" سألت : ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة . أجل ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة ؟ الطاولة ؟ ريش الطاووس ؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي ؟ شجرة البلوط؟ الشرفة ؟ ما هو الوطن ؟ خلدون؟ أوهامنا عنه ؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن ؟ بالنسبة لبدر اللبدة ، ما هو الوطن؟ أهو صورة أية معلقة على الجدار؟ أنني أسأل فقط".

ومرة جديدة ، ومفاجئة أخذت صفية تبكي ، وتجفف دموعها بمنديلها الأبيض الصغير ، وقال سعيد لنفسه وهو ينظر اليها:" لقد شاخت هذه المرأة حقا ، واستنزفت شبابها وهي تنتظر هذه اللحظة ، دون أن تعرف أنها لحظه مروعة ".

وعاد فنظر الى (دوف) وبدا له مستحيلا تماما أن يكون هذا الشاب من صلب تلك المرأة ، وحاول أن يستشف شبها ما بينه وبين خالد ، إلا انه لم يعثر على إيما شبه بين الرجلين ، بل رأى بصورة ما تضادا بينهما يكاد يكون متعاكسا تماما ، واستغرب أن يكون قد فقد ايما عاطفة إزاءه ، وتصور أن مجموع ذاكرته عن (خلدون) كانت قبضة من الثلج أشرقت عليه فجأة شمس ملتهبة فذوبتها.

وكان ما يزال ينظر الى (دوف) حين قام هذا الآخر فجأة ووقف أمام سعيد منتصبا كأنه يتصدر طابورا من الجنود المختبئين ، وبذل جهده كي يكون هادئا :

-" كان يمكن لذلك كله ألا يحدث لو تصرفتم كما يتعين على الرجل المتحضر الواعي أن يتصرف".

-" كيف؟".

-" كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا . واذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكم بأي ثمن ألا تتركوا طفلا رضيعا في السرير . وإذا كان هذا أيضا مستحيلا فقد كان عليكم ألا تكفوا عن محاولة العودة ... أتقولون أن ذلك أيضا مستحيلا؟ لقد مضت عشرون سنة يا سيدي ! عشرون سنة! ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك ؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا . أيوجد سبب أكثر قوة ؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي أنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون!...الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات ! كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقا صغيرا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود ... ولقد أمضيت عشرين سنة تبكي... أهذا ما تقوله لي الآن؟ أهذا هو سلاحك التافه المفلول ؟".

وارتد سعيد الى الوراء ، مدهوشا ومطعونا ، وأحس بدوار مفاجئ يعصف يه ، أيمكن أن يكون ذلك كله حقيقيا ؟ ألا يمكن أن يكون مجرد حلم طويل وممطوط وكابوس لزج يفرش نفسه فوقه كأخطبوط هائل؟ وأخذ ينظر الى صفية التي كانت دهشتها قد اتخذت شكل الانهيار المهيض الجناح ، وشعر بحزن عميق من أجلها ، ولمجرد أن لا يبدو غبيا ، اتجه نحوها ، وقال لها بصوت مرتجف:

-" لست أريد أن أناقشه ".

-" ماذا قال ؟".

-" لا شيء . بلى . قال اننا جبناء".

وسألت صفية ببرائة :

-" ولأننا جبناء يصير هو كذلك ؟".

عندها فقط استدار نحوه ، كان ما يزال واقفا منصب القامة ، وبدت ريشات الطاووس المطلة وراءة وكأنها تشكل ذيلا لديك كبير خاكي الون يقف هناك . وابتعث فيه المنظر انتعاشا غير متوقع ، فقال :

-" زوجتي تسأل إن كان جبننا يعطيك الحق في أن تكون هكذا ، وهي ، كما ترى، تعترف ببراءة بأننا كنا جبناء ، ومن هنا فأنت على حق ، ولكن ذلك لا يبرر لك شيئا ، إن خطأ زائد خطأ لا يساويان صحا ، ولو كان الأمر كذلك لكان ما حدث لايفرات ولميريام في أوشفيتز صوابا ، ولكن متى تكفون عن اعتبار ضعف الآخرين وأخطائهم مجيرة لحساب ميزاتكم ؟ لقد اهترأت هذه الأقوال العتيقة ، هذه المعادلات الحسابية المترعة بالأخاديع ... مرة تقولون أن أخطاءنا تبرر أخطاءكم ، ومرة تقولون أن الظلم لا يصحح بظلم آخر... تستخدمون المنطق الأول لتبرير وجودكم هنا ، وتستخدمون المنطق الثاني لتتجنبوا العقاب الذي تستحقونه ، ويخيل إلي أنكم تتمتعون الى أقصى حد بهذه اللعبه الطريفة ، وها أنت تحاول مرة جديده أن تجعل من ضعفنا حصان الطراد الذي تعتلي الذي تعتلي صهوته ... لا ، أنا لا أتحدث إليك مفترضا إنك عربي ، والآن أنا أكثر من يعرف أن الإنسان هو قضية، وليس لحما ودما يتوارثه جيل وراء جيل مثلما يتبادل البائع والزبون معلبات اللحم المقدد ، إنما أتحدث إاليك مفترضا أنك في نهاية الأمر إنسان . يهودي . أو فلتكن ما تشاء . ولكن عليك أن تدرك الأشياء كما ينبغي ... وأنا أعرف أنك ذات يوم ستدرك هذه الأشياء ، وتدرك أن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها ، كائنا من كان ، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكل حقه في الوجود على حسابهم ، وهي التي تبرر له أخطاءه وجرائمه...
وصمت لحظة ، ثم نظر مباشرة في عيني ( دوف):

-" وأنت ، أتعتقد أننا سنظل نخطئ ؟ وإن كففنا ذات يوم عن الخطأ ، فما الذي يتبقى لديك ؟".

وشعر ، ثمة ، أن عليهما أن ينهضا وينصرفا ، فقد انتهى الأمر كله ،ولم يعد هناك ما يقال بعد، وأحس تللك اللحظة بشوق غامض لخالد ، وود لو يستطيع أن يطير اليه ويحتويه ويقبله ويبكي على كتفه ، مستبدلا أدوار الأب والأبن على صورة فريدة لا يستطيع تفسيرها . " هذا هو الوطن" ، قالها لنفسه وهو يبتسم ، ثم التفت نحو زوجته :
-" أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله ".

وسألته زوجته متوترة بعض الشيء :
-" ماذا حدث لك يا سعيد؟"

-" لا شيء. لا شيء أبدا . كنت أتسأل فقط . أفتش عن فلسطين الحقيقية . فلسطين التي هي أكثر من ذاكرة ، أكثر من ريشة طاووس ، أكثر من ولد، أكثر من خرابيش قلم رصاص على جدار السلم . وكنت أقول لنفسي : ما هي فلسطين بالنسبة لخالد ؟ إنه لا يعرف المزهرية ، ولا الصورة ، ولا السلم ولا الحليصة ولا خلدون ، ومع ذلك فهي بالنسبة له جديرة بأن يحمل المرء المرء السلاح ويموت في سبيلها ، وبالنسبة لنا ، أنت وأنا ، مجرد تفتيش عن شيء تحت غبار الذاكرة ، وانظري ماذا وجدنا تحت ذلك الغبار ... غبارا جديدا أيضا ! لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط ، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل ، وهكذا كان الافتراق ، وهكذا أراد خالد أن يحمل السلاح . عشرات الألوف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع المفلولة لرجال يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور ، وهم إنما ينظرون للمستقبل ، ولذلك هم يصححون أخطأنا ، وأخطاء العالم كله ... إن دوف هو عارنا ، ولكن خالد هو شرفنا الباقي... ألم أقل لك منذ البدء إنه كان يتوجب علينا ألا نأتي .. وإن ذلك يحتاج الى حرب ؟ ... هي بنا !".

-" لقد عرف خالد ذلك قبلنا ... آه يا صفية ... آه"

ووقف فجأة ، ووقفت صفية الى جانبه وهي تفرك منديلها محتارة ، وظل دوف جالسا ، منكفئا على نفسه ، وكانت قبعته متكئة على المزهرية وتبدو هناك ، ولسبب ما ، مضحكة تماما ، وقالت ميريام ببطء:
-" لا تستطيعان أن تغادرو هكذا ، لم نتحدث كفاية عن الموضوع"

قال سعيد :
-" ليس ثمة ما يقال . بالنسبة لك ربما كان الأمر كله حدثا سيء الحظ ، ولكن التاريخ ليس كذلك ، ونحن حين جئنا هنا كنا نعاكسه ، وكذلك ، أعترف لك ، حين تركنا حيفا ، إلا ان ذلك كله شيء مؤقت . أتعرفين شيئا يا سيدتي ؟ يبدو لي أن كل فلسطيني سيدفع ثمنا ، أعرف الكثيرين دفعوا أبناءهم ، وأعرف الآن إنني أنا الآخر دفعت إبنا بصورة غريبة ، ولكنني دفعته ثمنا ... ذلك كان حصتي الأولى ، وهذا شيء سيصعب شرحه ".

واستدار ، وكان دوف لا يزال منكفئا في مقعده محتويا رأسه بين راحتيه ، وحين وصل سعيد الى الباب قال:
-" تستطيعان البقاء مؤقتا في بيتنا ، فذلك شيء تحتاج تسويته الى حرب ".

وبدأ ينزل السلم ، محدقا بدقة الى كل الأشياء وقد بدت له أقل أهمية مما كانت قبل ساعات وغير قادرة على إثارة أيما شيء في أعماقه ، ووراءه كان يسمع أصوات خطى صفية أكثر وثوقا من قبل . وكان الطريق في الخارج خاليا تقريبا . أتجه الى سيارته وتركها تنزلق على السفح دونما صوت ، وعند المنعطف فقط أدار محركها وأتجه نحو شارع الملك فيصل .

وقد ظل صامتا طوال الطريق ، ولم يتلفظ بأيما شيء إلا حين وصل مشارف رام الله ، عندها فقط نظر الى زوجته وقال :

-" أرجو أن يكون خالد قد ذهب .... أثناء غيابنا "!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
عائد الى حيفا 8 (تكملة)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات مدرستي :: ( المنتدى الأدبي ) :: المنتدى الإبداعي-
انتقل الى: